كلمة رئيس الرابطة المارونية في الذكرى الخامسة والعشرين لغياب شاكر ابو سليمان–

الربوة في 30/10/2025

معالي وزير الاتصالات المهندس شارل الحاج ممثلاً فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون،

سيادة النائب البطريركي المطران الياس نصار السامي الاحترام ممثلاً غبطة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي،

أصحاب المعالي والسعادة والسيادة،

أيّها الحفلُ الكَريم،

لَكأنَّهُ غادَرَنا أمْس، ذَلِك أنَّ مَطْرَحَ نَظَراتِهِ اللمّاعَةِ الثاقِبة بِعيْنيْهِ المُلوَّنتَينِ ودَماثةِ أخْلاقِه وحُسْنِ تَعامُلِه وطِيبِ مَعشَرِه وطَبْعِه المَرِح، لا يزالُ دافئًاً.

ولَكأنَّهُ غادَرَنا قبلَ دَهْر، إذْ إنَّ مَطْرَحَ الحَريصينَ على تَقارُبِ القِوى اللُبنانية، وعلى بثِّ الوِئامِ والحَماسةِ للنِضالِ المُشْتَرَك، وعلى تَقْريبِ وُجهاتِ النَظَر، باردٌ… وباردٌ جدًا حتّى ليُخيَّلَ إليْنا بأنَّ شاكر أبو سليمان ماتَ قبلَ دَهرٍ وأكثر.

لقد ارْتَبَطَ اسْمُ الرابطة المارونية باسْمِ شاكر أبو سليمان بزَواجٍ مارونيٍ لم يُفرّقْ بيْنَهُما الموت. ولا عَجَبَ في ذلك. فقدْ ترأسَّها وجسَّدَها بشَخْصِه ومُمارساتِه وتصْريحاتِه على مدى إحدى وعشرين سنةً متواصلةً، أي ما يَتَجاوز رُبْعَ عُمرِها البالغَ ثلاثةً وسبْعينَ عامًا، ورُبعَ عُمْرِه، وفي مَرْحلةٍ هي الأصعبُ في تاريخِ لُبنان. إذْ تَزامنَ انتخابُه سنة 1969، مع بروزِ التحدّي الفلَسطينيّ الذي فَرَضَ في تلْكَ السنة اتّفاقَ القاهرة، وتَزامنَ تسْليمَه أمانةَ رِئاسةِ الرابطة مع نهايةِ الحرْب التي لم يَكُنْ يَجْدُرُ أن تنْتهي على الشكلِ الذي انْتهَتْ عليه. فالتَضْحياتُ الكبيرةُ التي بُذلتْ مِنَ المُدافعين عن هويّةِ لبنانَ وحُرّيتِه وسِيادتِه واسْتقلالِه، كانتْ تَقْضي بالتأكيد بنهايةٍ مُشرِّفَةٍ أكثرَ بكثير.

مَن مِنَ الجيلِ المُخضْرمِ لا يذكُرُ وجْهَ شاكر أبو سليمان ووَجْهَيْ المطران خليل أبي نادر والأباتي بولس نعمان أطالَ الله في عُمره، وهُمْ يجولونَ على المُتقاتِلين لتَجْنيبِ لُبنانَ المصيرَ الذي وصَلَ إليه؟ كانتْ وجوهُهُم مُتجهّمةً، حَزينةً، قلِقةً، مُتسائلةً عَنْ سببِ عَدَمِ رُؤيةِ الهاويةِ المُقبلةِ مُسْرِعةً والامْتِناعِ عَنْ مُحاولةِ اسْتِدْراكِها.

لا أسْتذكِرُ هذه المآسي لتحْميلِ المَسؤوليّةِ لأحَدٍ، فلَيْسَ الوقتُ مُناسبًا لذلكَ، ولا فائدةَ مِنْ مُحاكماتٍ غير مُجْدية، فيما مَحْكمةُ التاريخِ تُصْدِرُ أحْكامَها مُبْرمةً لا تقبَلُ اسْتئنافاتِ التبْريرِ والتَعْليلِ أمامَ هوْلِ الجريمةِ المُرْتكبةِ بحقِّ لُبنانَ وأبْنائِه. أَسْتذكرُ هذه المآسي لأُنوّهَ بِبُعْدِ نَظَرِ شاكر أبو سليمان، وأشْكُره على شَرَفِ المُحاولة.

أيُّها السيدات والسادة،

لِكُلِّ شَعْبٍ مِنْ شُعوبِ الأرْضِ قَدَرُه… قَدَرُنا، وَفْقَ شاعرِ لُبنانَ العَظيم سَعيد عَقل “أنْ نَعيشَ دائمًا في خَطَر، “فنحنُ خُلِقْنا بَيْتُنا الخَطَرُ”. ولِكُلِّ جيلٍ مِنْ أجْيالِنا تَحَدّياتُه، تَحَدّياتُ جيلِ شاكر أبو سليمان كانتْ الدِفاعَ عَنْ لُبنانَ كَوَطنٍ تعدُّديٍّ حُرٍّ مُستقلٍّ لا يَنْصاعُ لأجَنْداتٍ خارجيّة ولا يَنْجرُّ لنِزاعاتٍ تُدمِّرُه وتُخَلِّفُه وتُفْقِرُه، وقَدْ أتَتِ الأحْداثُ الأخيرةُ ومَواقفُ غالِبيّةِ القِوى السياسيّة في لُبنان واعْترافاتُهم لتُنْصِفَ جيلَ أبو سليمان الذي قاتل دِفاعًا عن الفكرة اللُبنانيّة الأصْليّة والأصيلة.

تحدّياتُ جيلِنا لا تَقُلُّ صعوبةً. فأثْمانُ سِلْسِلةِ الحُروبِ والمَعاركِ التي دارَتْ رَحاها على أرْضِ لُبنان، أوهنَتْ بُنْيَتَه وقُدُراتِه، حتّى ضعُفَتْ قِواهُ وفاعلِيّتُه في الإمْساكِ بزِمامِ أُمورِه ومُواجهةِ المرْحلةِ المُقبِلَة الحُبلى بالفُرص، والمَحْفوفة بالمَخاطر، في آنٍ واحد، لصوْغِ دوْرٍ جديدٍ للُبنان. ولَعلَّ التحَدّي الأكبر الذي يُواجهُِنا هوَ في اسْتنْباطِ الدوْرِ الذي تحتاجُه المنطقة ويستطيعُ لُبنان أنْ يُقدّمَ قيمةً مُضافةً فيه.

فَما الذي لا يزالُ بإمْكانِ لُبنانَ أنْ يُقدِّمَه لمِنطقةٍ حقّقتْ أشْواطًا مُهمّة على مُسْتوى النُموّ، مُسْتفيدةً مِنْ إمكاناتٍ ماليّةٍ هائلة وحُكّامًا يُريدونَ تَطْويرَ بِلادِهم بأيِّ ثَمَنٍ أوْ طريقة؟  فيما ليسَ اللُبنانيّون بأفضلِ أحْوالِهم لأسْبابٍ عدّة، تَسْتأهِلُ أنْ نعكفَ على درْسِها وتحْليلِها في موضعٍ آخر.

الجَوابُ يَكْمُنُ في العَوْدةِ إلى الأصالةِ التي ميَّزَتِ الجيلَ اللُبنانيّ الأوّل، المَوْلودَ معْ لُبنانَ الكبير وقَبْلَه وفي ظِلِّ انْطلاقتِه بآمالٍ وجَدّيةٍ ورُؤىً خلّاقةٍ رَكّزتْ على الثقافةِ والفِكْرِ والعُمْقِ والالْتِزام. هذا الجيلُ الذي كانَ شاكر أبو سليمان أحّدَ أبرَزِ وُجوهِه، كانَ ليُحسِنَ اخْتيارَ الطريقِ الواجِبِ المَضيّ فيه، لأنَّ البوصَلة الكامِنةَ في وُجْدانِه وقلْبِه وعقْلِه كانتْ تدلُّهُ على الدَوامِ إلى ما فيه خَيْر الجَماعَة. هلْ انْطفأتْ هذه البوصلة أو تَعطّلتْ؟ أمْ إنّ الإراداتِ المُتعارِضةِ لاعْتباراتٍ لا تَصُبُّ دائمًا في خيْرِ المَجْموعة هي ما يُفرّقُ مَنْ يَحْظونَ بثقةِ الشعْبِ اللُبنانيّ، ويتَمتّعون بشَرَفِ تمْثيلِه في أيّامِنا؟

لقدْ كانَ لي امْتيازُ أنْ أُجالسَ قِياداتٍ كانتْ تَعْرِفُ كيفَ تُطوّعُ أهْواءَها وغَضَبَها ومَشاريعَها حوْلَ طاولةٍ وجبْهةٍ مِنْ أجْلِ الخيْرِ العام، وأنْ أُجالِسَ وأسْتَمِعَ إلى نُخَبٍ وقادَةِ رأي، مِثْلَ شاكر أبو سليمان، تَعْرفُ بحِنْكةٍ ودرايةٍ وحِكْمةٍ كيفَ بكلمةٍ ذكيّةٍ أو طُرفةٍ أو نَظرةٍ ذاتِ مغزى، تُعيدُ الأُمورَ إلى نِصابِها متى شَعَرَتْ أنّ مَجْرى الحَديثِ أوْ الأحداثِ قدْ يَنحو بالقِياداتِ إلى ما لا يُفيدُ أوْ لا تُحمدُ عُقْباه. ما أحْوَجَنا اليوم إلى مّن يقولون للقِياداتِ ما يجِبُ أنْ تسْمَعَه لا ما تُحِبُّ أنْ تسمعَه! ما أحْوَجَنا إلى شاكر أبو سليمان وأمْثالِه!

أيّها الأعزاء،

لهذِه الأسْبابِ ولِغَيْرِها قرّرتِ الرابطةُ المارونيّة، بَعْدَ مَضيّ خمْسةٍ وعشْرينَ عامًا على غِيابِ رَئيسِها السابق، أنْ تُنظّمَ هذا التكْريمَ المُسْتحَقَ لرَجُلٍ أعْطى الرابطةَ والمارونيّةَ مِنْ قلبِه وعقلِه وروحِه. وهي تأْمَلُ أنْ يكشِفَ التكريمُ للنُخَبِ الجَديدةِ التي لم تَعْرِفْ المُكرَّمَ شَخْصيّاً أنَّ التاريخَ يذْكُرُ أيْضًا مَنْ يعمَلونَ في سَبيلِ الوئامِ والتَلاقي وتَفادي الخِلافات. فلَقَدْ الْتَبَسَتْ للأسَف المَفاهيمُ، وغابَ الحُكماءُ الذين يُحْسِنون النُصْحَ والتصْويبَ، وما أخْطَرَ غِيابَهم!

هذا المَجْلسُ التنفيذيُّ الآتي إلى قِيادةِ الرابطةِ المارونيّةِ بتَوافُقٍ نادرٍ، يَعْكِسُ بشَكْلٍ أوْ بآخر، حاجَةً كامِنَةً لدى القِياداتِ الراهِنَةِ إلى مساحةِ تواصُلٍ في ما بيْنَها، على غِرارِ الدوْرِ الذي لعِبَه المُكرَّمُ على مدى عقْدَيْن وأكثرَ من الزَمَن، في تقْريبِ وُجهاتِ النَظَرِ وبَلْوَرَةِ المشتركاتِ واحْتِواءِ المُخْتلفِ علَيْه وتقْليصِه. لِذا يتَعَهّدُ المجْلسُ التنفيذيّ في الرابطةِ المارونيّة بأنْ يُكمِلَ مَسيرةَ الدِفاعِ عنْ اسْتقلالِ لُبنانَ وحُرّيةِ أبْنائِه في الفِكْرِ والمُعتقدِ والتعْبيرِ والخَيارِ، وتَحْقيقِ الوِفاقِ والسَلامِ والوِئامِ، التي التَزَمَها طِوالَ حياتِه شاكر أبو سليمان.