كلمة رئيس الرابطة المارونية النقيب سمير أبي اللمع في مؤتمر”مسيحيي الشرق الاوسط: تراث ورسالة”

صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الكلي الطوبى
أصحاب المعالي والمقامات الروحية وممثلي الكنائس الشرقية والطوائف الاسلامية والمسيحية
أصحاب السعادة والسيادة
الحضور الكريم
يُسعدني ويشرفني أن أرحب بكم جميعاً حضوراً كريماً مميزاً في افتتاح أعمال هذا الؤتمر العالمي الذي تنظمه الرابطة المارونية مع كنائس الشرق الأوسط برعاية سامية من صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الكلي الطوبى، الذي شرفنا بحضوره الشخصي الداعم وبركته الأبوية، آملين أن نوفّق جميعاً حضوراً ومتكلّمين في إنجاح أعمال هذا المؤتمر في التطرق الى واقع مسيحيي الشرق، كما لظاهرة العنف والتهجير والتكفير التي يمارسها خارجون عن مبادئ وقيم الدين، وحث العرب جميعاً مسلمين ومسيحيين الحفاظ على شركة العيش القائمة بينهم منذ نيّف وألفي عام.
الحضور الكريم
هذا المؤتمر ليس صرخة إنفعالية تجاه ما يجري في عالم نحن من صميمه وبناته. إنه دعوة هادئة للتفكير العميق في مسائل كيانية، ديموغرافية وجغرافية، ومتغيرات تهدد الهوية العربية وتطال الحضارتين المسيحية والاسلامية على حد سواء.
مسيحيو الشرق، وعبر التاريخ، أسهموا إسهامات جليلة في إنتاج الحضارة العربية والإسلامية، حتى اعتبروا حتى الماضي القريب، بوابة الإسلام ووسائطه على حضارة الغرب.
وعندما كان الحديث يتناول أوضاعهم في المشرق العربي، كان يتركز على دورهم المحوري في صناعة الشخصية العربية وريادتهم في النهضة، سواء من حيث الثقافة والتربية والاقتصاد، أو لجهة التزامهم بالعروبة المتنورة وقضايا أمتهم العادلة.
حضور المسيحيين في بلدان الشرق الاوسط، كان وما يزال حضور رسالة، والرسالة بذل وتضحية وعطاء.
لقد أردفوا هذا العالم وثقافة أرضه، بروحية الإنجيل وتعاليم الرسل فعمّ الانفتاح والتنوع، وقامت حركات التحرر والنهضة والابتكار.
بهذه الروحية، قرر المسيحيون أن يعيشوا مع إخوتهم المسلمين في هذه الارض، فكانت بينهم حقبات مضيئة في التعاون والتآخي، وكانت حقبات مظلمة، لم يكن الاجنبي بعيداً عن افتعالها….. هذه الحقبات عكرت صفو علاقاتهم، وضربت صيغة التعايش بينهم لفترات، فكانت مجازر 1915 وضحايا الابادة الارمنية، وما طاول الاخوة السريان والاشوريين والكلدان من قتل وتهجير وتنكيل… ولاننسى المجاعة التي تسبب بها حصار جبل لبنان وهلاك ثلث سكانه، يومها آلم الصمت العربي الشاعر ابراهيم اليازجي عن هذه المجازر والمجاعة، فقال:
تنبّهوا واستيقظوا أيها العربُ
فقد طمى الخطبُ حتى غاصتِ الركبُ
خلّوا التعصبَ عنكم واستووا عُصَباً
على الوئامِ، ودفعِ الظلمِ تعتصبُ
أيها الحضور الكريم،
اليوم، وبالرغم من الهدوء الذي ينعم به لبنان على المستوى الامني، فإن المتغيرات الدراماتيكية اتي تعصف ببعض البلدان المجاورة، تبعث على القلق الشديد.
صحيح أن الهجرة التي تعم هذه البلدان، تشمل مسيحيين ومسلمين وإتنيات أخرى، إلا أن تهجير المسيحيين، سببه الاساس، تصاعد المدّ الاصولي الاسلامي المتطرف.
في هذا السياق، يقول الصديق العزيز محمد السماك في إحدى محاضراته: ثمة أمرين لا يمكن تبريرهما ولا السكوت عليهما. الامر الاول هو ضعف الشعور الاسلامي العام عن إبعاد الهجرة المسيحية من الشرق وخطرها على مكوناته البشرية والفكرية والثقافية والروحية المتعددة، وكذلك خطر تنامي الاصولية على سمعة الاسلام وصورته في العالم. والامر الثاني، هو تصاعد الشعور الغربي المتعاطف مع المسيحيين الشرقيين، والداعي الى المطالبة بتسهيل هجرتهم، وتوطينهم في الدول التي يهاجرون إليها، وهو أمر خطير أيضاً، سيؤدي حتماً الى تذويبهم في بيئة غريبة عن عاداتهم وتقاليدهم، ويفقدهم حق العودة الى أوطانهم.
أيها السيدات والسادة
السؤالين المطروحين اليوم على الجميع:
الاول: ماذا يفترض بالاخوة المسلمين أن يفعلوا تجاه المد الاصولي الرافض للغير؟
إن الحفاظ على دور وحضور المسيحيين في الشرق، كان وما يزال مسؤولية مشتركة بين المسيحية والاسلام، لأن غياب المسيحيين عن أرض الرسالة التي شهدت ولادة السيد المسيح وحياته وموته وقيامته، إنما هوتغييب للكنيسة الجامعة عقيدةً وشعباً ووأدٌ للتاريخ، واستهداف للديانتين المسيحية والإسلامية على حد سواء.
إن على المراجع الاسلامية والمسيحية المبادرة معاً الى رفع الصوت عالياً والتصدي للموجة العاتية التي تحرّف رسالة الاسلام وتفرغها من مضامينها السامية، ونبذ التطرف من أية جهة أتى، والوقوف في وجه الفكر التكفيري وردات الفعل عليه، ورفض القبول بصراع الحضارات كقدر لا مفر منه.
ولا ننسى أهمية دور الكنائس في دعم بقاء أبنائها حيث هم، وبث فيهم روح الصمود. من هنا ينبغي تضافر الجهود بين جميع الطاقات المتوافرة في كنائسنا، خصوصاً في ميداني الخدمة الاجتماعية والتعليم. وهذا يتطلب وضع إستراتيجية تقوم على التعاون الانساني مع مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل من أجل خير الانسان، بغض النظر عن دينه ومعتقده.
والسؤال الثاني: ما هو دور المجتمع الدولي؟ وهل سيترك بركان التطرف مسترسلاً في قذف حممه حارقاً حضارة مشرقية وما تمثله من تنوع وغنى إنساني؟
نحن لا نسأل المجتمع الدولي حماية الأقليات في هذا الشرق، لأننا لسنا أقليةً جاءت بها الصدف التاريخية، بل نحن أبناء الأرض، وُجدنا فيها منذ فجر المسيحية… وهو الفجر الذي انبزغ مع أجدادنا، وقد تركوا مغريات الدنيا وتبعوا كلمة المخلّص، وبلغوا معه ذرى الفداء، شهادة لإيمانهم.
إن المجتمع الدولي، مدعوٌ اليوم الى التوقف عن عسكرة النزاع في الشرق الاوسط، والنظر الى هذا الشرق بعين القيم والمبادئ التي حددتها شرعة حقوق الانسان، فلا يدعم دولاً أو أنظمة أو قيادات لا تعترف بالآخر أو تقمع الآخر، أو ترفض المساواة بين البشر.
كما هو مدعو الى وضع مشروع إنقادذي تنموي إقتصادي اجتماعي، يساهم في عودة المهجرين الى أراضيهم وبيوتهم، فيعود آلاف الى نينوى والموصل وداموك والحسكة وحلب ووادي النصارى وبيت لحم ووادي النيل، وإلى أي أرض تهجر منها إنسان.
أيها الحضور الكريم
إن لبنان كان وما يزال يشكل النموذج الأمثل للقاء الأديان والحضارات وتفاعلها ونبذ التطرف، ومن واجبنا جميعاً المحافظة عليه وعلى وجهه التعددي وعيشه الواحد المتكافئ بين عائلاته الروحية، التي عليها صوغ ميثاق حياة، والبناء على المشتركات العديدة التي تجمعها، وتجاوز كل ما يمكن أن يعبث بالمرتكزات الاساسية التي تقوم عليها فلسفة وجوده كبلد متحد، وقيمة مضافة، عاش قيم الديموقراطية، وكان رائد الحداثة والتجدد، والشرارة التي أضاءت الظلمات، وأسهمت في نقل العالم العربي من الاستكانة والركود الى آفاق التقدم الرحب.
لقد كان للمسيحيين الدور الابرز في عملية الانتقال هذه، وبث روح الحداثة في المحيط، مما يرتب عليهم اليوم مسؤوليات جساماً، للحفاظ على هذا الارث العظيم، من خلال تجذرهم في أرضهم، والثبات في أداء رسالتهم، واستلهام تعاليم الكنائس، جسراً بين الارض والسماء.
إن علينا استيعاب العاصفة واحتواءها، وهي ستمر كسابقاتها، وأن نجعل من كل ألم جديد وجهاً لأمل جديد. وسيكون ذلك متاحاً إذا اتحدت القلوب وحسنت النيات وتجانست القناعات ورصت الصفوف.
إن وحدة مسيحيي الشرق تبدأ بوحدة مسيحيي لبنان. هذه مسلّمة مؤكدة. وإن الوصول إليها تتعلق بكل واحد منا. وعلى الجميع طرح خلافاتهم جانباً والذهاب مع شريكنا المسلم نحو تحقيق الغاية الرئيس، التي تصون لبنان وحضوره الفاعل في هذا الشرق.
والبداية اليوم تكون بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يقود البلاد في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة من تاريخنا، فتنتظم الحياة الدستورية، ويجلو الصدأ عن أجهزة الدولة، وتنطلق دورة التشريع وتتحرر السلطة الإجرائية من العواصف المكبّلة لها.
هكذا، نستنقذ لبنان، وننشله من براثن المجهول، فيعود إلينا ونعود إليه. وعسى أن تكون الأخطار التي تعصف بمسيحيي الشرق، وهي عابرة بإذن الله، حافزاً لمسيحيي لبنان لكي يعودوا الى الدولة والانخراط في مؤسساتها.
إن المسيحيين في لبنان يجدون في الدولة المدنية القوية الديمقراطية، الخيار الوحيد بين قوميات تهاوت، وأصوليات تكفيرية تلغي الأخرى. إن واجب المسيحيين في لبنان هو الالتزام بقضايا هذا الشرق الذي جعلنا الله فيه خميرة طيبة، وهو يفترض انخراطنا بالشأن العام، وعدم انعزالنا عن قضاياه المحقة.
إن حق لبنان على المسيحيين، ألا يتخلوا عنه، إذا أرادوا فعلاً أن يبقوا في صلب المعادلة الوطنية، ينيرون الشرق شهوداً للحق، نكهتهم محبةٌ وصفحٌ وإيمان، إلى أن يحلَّ روح القدس فيهم إنسانية، نصيرة للحق والرجاء.
رئيس الرابطة المارونية
النقيب سمير أبي اللمع