إميل أبي نادر
أرضي هويتي! صوت صارخ بل نداء، يشقّ حُجُبَ السماء. يدوّي في الفضاء، يصدح من أعلى القمم، من منبت أرز العلم، صوت يخترق الحواجز والدشم، يُسمِع من في آذانه صمم، يَدك صمود الصنم، من القاعدة الى رأس الهرم، من لبنان الى جامعة الأمم.
“ارضي هويتي” عنوان مؤتمر انعقد بتاريخ الخامس من تموز الجاري، بدعوة من الرابطة المارونية، ورعاية صاحب الغبطة مار بشارة بطرس الراعي.
عنوان كبير وخطير، نقلنا للتو الى مأساة فلسطين أرضا وهوية. كانت فلسطين من قبل كلها عربية، من رأس الناقورة الى صحراء سيناء حتى عريش مصر وضفاف البحر الاحمر، فأصبحت بعد وعد بلفور المشؤوم، ارضا مغتصبة، باعها أهلها بثلاثين من الفضة، وتشظت الهوية بمباركة الأمم المتحدة في نيويورك واعلان انشاء دولة اسرائيل عام 1948.
فشلت الجيوش العربية مجتمعة، في صد هجوم جيش العدو الغاصب، جيش لبنان وحده على محدودية امكاناته سجل في المالكية انتصاراً يتيماً لا تزال ذكراه على فرادته، ماثلة في الأذهان.
شُرد أهل فلسطين، بمئات الألوف الى البلدان “الشقيقة” الاقرب، فكان للبنان، الشقيق الاصغر، النصيب الاكبر منها، على ضيق رقعة أرضه وضعف امكاناته. وانتشرت المخيمات الفلسطينية على امتداد أرض الوطن “الشقيق” من النهر الكبير شمالا الى رأس الناقورة جنوبا مرورا بعين الحلوة وصيدا والمية وميّة حتى مدينة صور، وبينهما تل الزعتر، برج البراجنة، صبرا وشاتيلا.
وتوالت الحروب العربية الاسرائيلية كلها على أرض لبنان، وكانت حرب السويس وهزيمة 1967 ودفرسوار 1973، سبقتهما عام 1970 معركة ترحيل اللاجئين من الاردن، على عهد الملك حسين، فرُحّل عدد كبير منهم الى البلد “الشقيق” المضياف.
ولبنان اليوم؟ البلد العربي الهوية والانتماء، هل أصبح هوية تزحل من تحتها أرض دهرية، يبيعها أهلها بثلاثين من الفضة، على غرار ما فعل، طوعاً أو قسراً، جهلاً أو جشعاً، اشقاؤهم في فلسطين؟
هل من وعد مبطّن خبيث، قطعه بلفور ما، او من حل محله في هندسة شرق أوسط جديد؟ وعد باعلان أرض لبنان، وطناً موقتا، برسم تغيير الهوية. أو بيعها، او محوها؟ على مثال أرض عربية اصبحت جمهورية ارض الميعاد، فيصبح لبنان بعدها جزءا من جمهورية ثيوقراطية، تتناتش هويتها، طموحات أصولية معلنة، خليجية المنطق، من احدى ضفتيه العربية او الفارسية أو من الضفتين معا. عندها يتذكر أهل لبنان كلام السيد على جبل الجلجلة: “وعلى ثيابي اقتسموا”.
1 – ارضي هي هويتي الروحية، في يانوح ووادي قنوبين، في أرض قانا وهضبة التجلي، في سيدة المنطرة بجوار صيدا وفي مقام النبي أيوب، في بقاعكفرا وعنّايا، في مغارة الراهب ببلاد الشمس، في الجامع العمري ومحمد الأمين، وبجوارهما كنائس قاهر التنين، مار جرجس الخضر.
2 – ارضي هويتي الوطنية في عنجر والمالكية، في بشامون وراشيا، في جبل عامل ومرجعيون والنبطية، في ساحل خلدة والاوزاعي، في إهدن ودير القمر في المختارة والباروك وبعقلين.
3 – ارضي هويتي الحضارية، منذ أبحرت من شطآننا قوارب من خشب الارز تنقل الابجدية والحرف الى انحاء المعمورة، أرض أولبيانوس ويابينيانوس في “أم الشرائع” بيروت.
4 – أرضي هويتي الفكرية، أدباً وشعراً وصحافة، تغزو الحجاز وسوريا ومصر وبلاد الرافدين، بأقلام أمين الريحاني وجرجي زيدان، وجبران خليل جبران، وجورج شحادة وميخائيل نعيمة وشكري غانم وصلاح ستيتية وأمين معلوف وقبلهم المعلم عبدالله البستاني وبطرس البستاني والشيخ ناصيف والشيخ ابراهيم اليازجي، وبعدهم الشيخ عبدالله العلايلي والامام الصدر والامام محمد مهدي شمس الدين.
5 – ارضي هويتي، آثار وتراث في آثارات بيبلوس وأعمدة مدينة الشمس وآثارات عنجر، في قصور المعنيين والشهابيين في دير القمر، بعقلين وبيت الدين، في قصر المختارة وقصر خلدة، في محمية أرز الباروك وطن شاعر “كلنا للوطن”.
6 – أرضي هويتي، أرض الفرح والغناء والفكاهة والمواويل: أرض عمر الزعني، أرض صباح وفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين، أرض نجيب حنكش وفيلمون وهبه، ارض نور الهدى وماجدة الرومي وملحم بركات، أرض عاصي الحلاني ومعين شريف.
أرضي هويتي تعني الحرص على دور واستمرارية نظام ديموقراطي في لبنان يراعي أحكام الدستور، يسهر على تأمين حقوق المواطنين وحمايتها، بالمساواة والعدل بين الجميع.
أرضي هويتي، هي أرض حرية مسؤولة، تتيح لكل مواطن مساءلة أي مسؤول مهما علا شأنه، عن أي مخالفة او تجاوز لأحكام القانون والميثاق والدستور.
في هذه اللحظة بالذات، أرضي هويتي يعبّر عنها بداهة وطوعا، بتطبيق أحكام الدستور الصريحة لملء الفراغ الدستوري الخطير في حال استمراره، مؤدياً الى فجوات قاتلة في صرح الوطن، تهدده بالزوال.
فحذار حذار من اسخريوطي ما، يتسلل الى صفوف الاثني عشر على أرض لبنان، للتآمر على الهوية والكيان، فقد لا يجد شجرة تين يشنق عليها نفسه، ولاتَ ساعة مندم.
“لبنان باق وأعمَار الطغاة قصار”.