إميل أبي نادر-
مدير عام متقاعد – عضو مجلس تنفيذي سابق في الرابطة المارونية
هو عيد لبنان، لبنان الصغير المساحة والحجم، والكبير في التاريخ وفي التراث. فوق كل أرض وتحت كل سماء.
وبنو لبنان هم حفدة القداسة الأُوَل، توزعوا في الجهات الأربع والقارات الخمس، والمحيطات السبعة؛ وإنهم في جنيف ولندن وباريس، موسكو وبرلين، في سان باولو بيونس ايرس وسيدني، في مونريال ونيويورك، في لاغوس وأبيدجان وداكار، في كل موطئ شمس وتكيّة نجمة، وقد صحّ فيهم قول شاعر النيل، حافظ إبرهيم:
ما همهم أنهم في الأرض وقد نشروا
فالشهب منشورة مذ كانت الشهب
وأدوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا إلى المجرّة رُكباً صاعداً ركبوا
فإن قلنا لبنان، قلنا الموارنة في الطليعة.
المارونية ولبنان متلاصقان كما الخاتم في الإصبع، والسوار في المعصم.
يحتفل لبنان بعيد مارون، أباً لطائفةٍ أصبحت على مرّ الدهور جزءاً لا يتجزأ من شعب لبنان الأبيّ.
والمارونية ليست شيعةً ولا مذهباً ولا طائفة، بالمعنى الحصري للتعريفات إنما هي مسيرة نهج سليم وحياة حرّة كريمة.
إنها أصالة نابعة من أرض، مجذّرة في تراث، ناهدة الى المجد، في تاريخها عناوين مضيئة وأعلام مضيئون، وهي في الفخار لا في الكبرياء، في الانفتاح لا في التقوقع والإنعزال، في التسامح والفغران لا في الحسد والضغينة. وهي زهوٌ جعل التاريخ يكتب عمّا يمكن أن يُسمّى الأمة المارونية الصامدة بوجه عواصف الأجيال، لها قاعدة من أرض وشعب، ومسارٌ ثابت أكيد، من عراقة الماضي الى هيبة الحاضر.
نمت المارونية وترعرعت في ثنايا أرض لبنان، بين مقالع الصخور وأعباب السنديانات العتيقة، وسقسقة مياه الينابيع وشاطىء أبحرت منه سفناً من خشب الأرز، تمخر عباب اليمّ، تنقل المعرفة والحرف، الى الجهات الأربع.
وقد برز الموارنة منذ ذاك، عبر عناصر ثلاثة: الدير والبيعة والسلطة.
- الدير: الذي تعلّم فيه الماروني حبّ الله والآخر، وحب الأرض، وتعلّم أن يعمل للثلاثة معاً، فالدير ليس مكاناً للصلاة فحسب بل للعمل أيضاً. فهو قلعة فكر ومنطلق رسالة، فمن الدير السحيق على العاصي الى دير قزحيّا وقنوبين، الى اللويزة ومار شعيا، الى مشموشي والنبطية ودير القمر وبيت الدين وسواها الكثير، كانت جميعها واحات صلاة وتأمل وفتح عقلي وإسهام حضاري.
- البيعة: تربط الماروني بربٍ تجسّد وصار انساناً، وهي ليست خدمة اجتماعية، بل هي ديناميّة وصيرورة، ومن هنا يمكن أن يتلقاها الماروني وغير الماروني، إذا وعى أبعاد تجسُّد الإله بالانسان والكون.
- السلطة: التي تربط الماروني بمجتمعه ورسالته على الأرض، يده بيد أخيه الانسان من كل مشربٍ ومذهب، والبيعة عند الموارنة لم تهيمن يوماً على الأمة، بل كانت هي تخدمها وتلهمها من دون أن تسيطر عليها. والمارونية حريّة، وهمّ الماروني عبر التاريخ كان أن يعيش حرّاً، أن يتعلّم ويعلّم، أن يعرف ويُبدع، أن ينمّي أصالته.
الحرية صنو الماروني، وتعلّقه بها كان دوماً ضمان ثباته وإنجازاته وبها دمغ لبنان، فكانت واحدة من ركائز دستوره وأنظمته وقوانينه وأصبحت مسلكاً ونمط حياة.
المارونية تراث روحي وعطاء، انبثقت من مجتمعها إشعاعات ثقافية مضيئة ولدّت أنماطاً تحتذى، فكان الموارنة الى جانب أقرانهم في لبنان، روّاد نهضة اللغة العربية، وانطلقت على أيديهم الصحافة في مصر ولبنان، في الأميركيتين وأوستراليا. وفي القرن التاسع عشر، ظهرت في أحد الأديرة أول مطبعة بالحرف العربي، واستمرت العطاءات، كتباً وموسوعات ومؤلفات، هي اليوم موضع اعتزار وفخر الموارنة ولبنان.
ليست المارونية أمجاداً فحسب، فقد مرّت بجلاجل، عرف الموارنة خلالها صلباً وأكاليل شوك واسفنجات خلّ، لكنهم ظلّوا صامدين في وجه الريح مؤمنين بقدرتهم، قانعين بقدَرِهم. يغمرهم عمق الإيمان، والمحبة والعزم الأكيد للسير على خطى مارون، شفيعهم وشفيع لبنان.
صلاتنا اليوم في العيد، أن ينزل الله على لبناننا الحبيب، وعلى كل اللبنانيين هنا وفي العالم، بشفاعة القديس مارون: النِعم السماوية، نعم المحبة والعطاء والغفران، والعيش الحرّ الكريم، متحدين جميعاً، مع كل الأخوة المؤمنين، صفاً واحداً ويداً واحدة، لمواجهة كل ما يهدّد الكيان من شر وتكفير، ويهدد وحدتنا وكرامة الوطن والمواطن، بالتشتت والهجرة والتهجير.
وأخيراً استميح عذراً روح لبناني كبير، فقيد لبنان، الصديق الغالي السفير فؤاد الترك، إذ استلهمت في هذا المقال ما جاء على قلمه ولسانه في عيد مار مارون في جنيف في 11 شباط 1995، أمام وفد كبير من الموارنة والمؤمنين، وفي حضور المغفور لهما الاستاذ ارنست كرم رئيس الرابطة المارونية في حينه، والمهندس ريمون روفايل رئيس المجلس العام الماروني.
وأختم، مع أبناء بلدتي الحبيبة بيت الدين، وأبناء شوفنا الأبيّ، بصلاةٍ لشفيع بلدتنا مار مارون، ليحرس أهلها ويرعاهم، ويقيهم شرّ العابثين بتراثها وكرامتها وتقاليدها.
أعاده الله عيداً مباركاً على كل الموارنة، في لبنان والعالم، وكل المؤمنين بالله وبكرامة الانسان، في لبنان والعالم.
وبهذا البيت لسعيد عقل شاعر مجد لبنان:
وواحدّ مجدُ لبنان الذي أخذتْ عنه الحضارة ما لولاه لا حضر.
المصدر: النهار – منبر – 5/2/2018