يسعد الرابطة المارونية ويشرفها أن ترحب بالحضور الكريم من أبناء المتن الشمالي، وبالمنتدين الأعزاء، حول موضوع يشق اليوم طريقه في عالم الانسان، حيث الإنماء والرفاه الاجتماعي يشكلان العنصر الاهم في استقرار الشعوب ونمو الاوطان وترسيخ ديموقراطية العيش المشترك في المجمتعات.
لقد اتسم المتن الشمالي عبر التاريخ القديم والحديث بالتعايش الانساني الحر، وبالنضال المستمر من أجل إعلاء شأن الوطن وترسيخ أسس الديموقراطية، عبر رجالات متنورين وضعوا ركائز الوطن، فأعلوا بنيانه عزيزاً معافى، لم تنل منه تحديات العصور وتقلبات الاحوال.
يتمحور تاريخ المتن الشمالي بساحله ووسطه وأعاليه، بمؤسساته ومكوناته، حول سيرة الناس فيه، وتطلعاتهم وسعيهم المستمر الى مزيد من التقدم والرقي. فالأسر المتنية بتحركها في المدى الجغرافي للجبل، تشكل تاريخياً، عبر مؤسساتها الخاصة والعامة، عامل استمرار واستقرار ودعم ووقاية، وإنطلاق الى رحاب كل الوطن ودنيا الانتشار.
أنا، كلما عدت الى قراءة تاريخ البلدات والبلديات والقرى في هذا المتن الحبيب، وجدتني أعود الى ذكريات منبتي وطفولتي وشبابي. ففي قراءة التاريخ يتعلم الانسان الكثير من الحكمة والمرونة والنضال، فيفرح بما نعم به الآباء والاجداد من فترات مجد وعـزّ ، ويحزن لما عانوا به من حقبات الالم والوجع، ويأخذ من عـِبر الماضي سبيلاً لإستشراف المستقبل.
اليوم، وفي مطلع الواحد والعشرين، ومع مر الأيام تضاعف الوجع الإنساني في مجتمعاتنا ولا سيما في بعض المناطق التي أُصطلح على نعتها بالنائية أو بالاطراف.
هذا الواقع الاليم، دفع بالرابطة المارونية، من موقعها الوطني الشامل ومن حسّها الإنساني الاجتماعي، الى إيلاء موضوع الإنماء الأهمية القصوى… لما يشكل عدم التطرق اليه ومعالجته، مخاطر على الوطن والصيغة والكيان.
لقد دأبت الرابطة المارونية منذ حوالي السنتين الى تنظيم العديد من المحاضرات والنداوات والمؤتمرات وتوقيع العديد من اتفاقيات التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، في سعيها الى استنباط الحلول الكفيلة في شدّ المواطن الى أرضه وبيئته، وتأمين سبل عيشه في جو من الحرية والكفاية، يتلأم مع تطلعاته وحاجاته الآنية والمستقبلية.
ولقد بات من الطبيعي أن يتوق اللبناني اليوم، الى أي قضاء، أو منطقة انتمى، بأن ينعم بمزيد من الكفاية والرفاه الاجتماعي، وأن يكون محصناً بشبكات أمانٍ اجتماعي تضمن له الاستمرار في أرضه مسيّجاً بضمانات حياتية، تبعد عنه الفاقة والعوز.
فمن أجل إيجاد حلول لهذه الحالة، التي أضحت تشكل معضلة إنسانية في بعض المناطق، تناوبت في الفترات الاخيرة، أطراف لبنانية مختلفة في سعي الى وضع أطر لمشاريع إنمائية تهدف الى دعم المناطق الريفية على العديد من المستويات. إلا أن تعقيدات حالت دون ذلك، بسبب بعض النزاعات والخلافات الأهلية المتكررة، وعدم القناعة بعدالة الدولة تجاه أبنائها جميعاً. أضف الى ذلك، أن ما أنشىء في لبنان من شبكات أمانٍ وحماية اجتماعية، ظلّ مع تعاقب العهود، مشوباً بالضعف والاختلال، وبقي يتسم بطابع أقرب الى اعلان النوايا، منه الى تجسيد النظرة العصرية والمتطورة لكيان وكرامة الانسان.
أيها الحضور الكريم،
اسمحوا لي، ومن زاويتي الخاصة، أن أطرح بعض الافكار التي اعتبرها أساساً في ولوج عالم الإنماء الذي نطمح بأن يعم كل لبنان.
أن مبدأ التكافل، يشكل ركناً أساساً من أركان أي مشروع اجتماعي، يهدف الى إنماء المناطق في لبنان، وأنه يجب أن لا ينطلق مبدأ التكافل من فكرة الإحسان، بل يجب أن يفهم على أنه دعم لمصلحة البلاد العليا، وأن يقوم على معادلة مثلثة الاطراف بين الدولة وأصحاب الإمكانيات المادية والمعنوية وباقي فئات المجتمع الاهلي.
كما يجب أن يشكل مبدأ التكافل، تجسيداً لبناء قاعدة من الضمانات الاجتماعية وتبيان مصادر تمويلها وآليات عملها والمعايير الناظمة لها، والفئات التي يفترض أن تستفيد منها، على أن يقترن المشروع الاجتماعي، وما يرتبط به من رفاه نسبي للمجتمع، بآلية تنفيذية عادلة واضحة المعالم، تعود بالخير لجميع المواطنين بدون تفرقة بين المناطق، أو بين الاديان والمذاهب.
ومن أجل تحقيق هذه الاهداف، كانت الرابطة المارونية من أوائل مؤسسات المجتمع المدني التي دعت الى تطبيق نظام اللامركزية الادارية الموسعة، سبيلاً الى تطوير الحياة الادارية والسياسية والاجتماعية في لبنان، وحلّ مشكلة الإنماء المتوازن عبر المكونات الجغرافية والادارية في الوطن.
إن نظام اللامركزية الادارية يساعد في الحل المنشود، لأن الإنماء سيكون من صلب كيانه ووجوده وعمله اليومي المستمر، وستكون للبلديات، وهي النواة الاولى والاصغر للامركزية الادارية الدور الفعال والصلاحيات الأوسع في شتى المجالات، العمرانية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية والبيئية. خصوصاً عند تخفيف الرقابة على أعمالها وقراراتها التي يجب أن تبقى نافذة دونما حاجة للتصديق، سوى لبعضها المحدود من قبل القائمقام أو المحافظ.
أيها الحضور الكريم،
هذه بعض الاقتراحات التي أتمنى على المشاركين الأعزاء مناقشتها، وسنستمع الى المزيد منها، عبر مسؤولين عن مؤسسات وجمعيات وتعاونيات عرفوا بالنشاط والجدية وحققوا نجاحات كبيرة في شدّ الانسان اللبناني الى أرضه وبيئته وأزاحوا عنه مأساة النزوح الى المدينة أو الالتحاق بركب الهجرة
أنني في هذا السياق، أكبر العمل الذي تنهض به لجنة المناطق وإنماء الريف في العديد من المجالات الحياتية، وأثمّن عالياً نشاط العزيزة الاميرة كارلا شهاب المسؤولة عن هذا القطاع الحيوي، مع كامل الشكر والتقدير للهيئات المنتدبة المشاركة في هذا اللقاء، كما بحضور رؤساء واتحاد بلديات ومخاتير المتن الشمالي، وكل الذين قدموا يد العون والمؤازرة المادية والمعنوية في سبيل إنجاح هذا اللقاء. وأختم بإقتباس فقرة من محاضرة ألقاها الأب Debret عام 1961 بعنوان: Besoins et Possibilités de Développement du Liban
يقول: ” إنه ينقصكم في لبنان مجموعات عمل تكرس نفسها للمصلحة العامة، وتعمل بروح تعاونية لحل المشاكل العديدة في الحقلين الاقتصادي والإنساني. إذا لم يحصل تحول في ذهنية النخبة الشابة، وإذا لم تحدث في لبنان ثورة فكرية وخلقية، تكون التنمية هشة ولن يستطيع لبنان إداء دوره لا في الداخل كعامل متماسك، ولا في الخارج كمركز حضاري عالمي.
إن مبرر وجود لبنان وديمومته هو إنساني في الدرجة الاولى وإن تغيير الذهنية والسلوك والتضامن اليومي يسهلان تنفيذ خطة الإنماء والتنمية… وإنني ارى في المستقبل شباباً لبنانيين سيحققون ثورة اجتماعية بيضاء ينهضون بالوطن الى معارج الرقي الاجتماعي والرفاه الانسان.
أيها الحضور الكريم
إنني اتطلع اليكم في هذا اللقاء، فأرى في وجوهكم وحماسكم واندفاعكم، ما يدعو اليه الاب Debret منذ نصف قرن.
وشكراً لحضوركم
النقيب سمير أبي اللمع