كان مشهد احتضان القاع للأسرى المحررين مؤثّرًا في مضمونه ومعناه. مسيحيو هذه القرية ذاقوا الشهادة، وأدركوا ما كان يوسف بن الحلاّج يقول: «ركعتان في العشق لا يسوغ الوضوء بعدها إلاّ بالدم». تبنت القاع منذ سقوط شهدائها على مذبح الإرهاب العبثيّ هذا القول، وعاينته في وجوه الأسرى المحررين، فهؤلاء وإن انتموا الى حزب الله بالعمق، ولكنهم أبناء لبنان والمشرق العربيّ واهله. لقد أكّد كلام بشير مطر رئيس بلديتها
سبق مشهد القاع مشهد آخر في بلدة دير الأحمر، مع مرور جثامين الشهداء. أهمّ ما فيه أن المطران حنّا رحمه راعي أبرشيّة دير الأحمر للموارنة، استقبل الشهداء، وقرعت أجراس الكنائس في البلدة حزنًا مترافقة مع تلاوة آيات من الذكر الحكيم، ودلّ ذلك على فهم مشترك بأنّ معركة الجرود وطنيّة ومشرقية لا التباس فيها، ولولا مفهوم القتال الاستباقيّ ومن ثمّ الردعيّ وبعده الهجوميّ الاقتحاميّ لبطل الوجود اللبنانيّ بتنوعه الفريد وتلاحمه المضيء، وقد تجلّى في الدير على أرقى وابهى ما يكون، وأفضل تعبير عن تلك الرؤية تلك الكلمة التأبينيّة الصادرة عن المطران رحمه، وقد أضاء فيها على معنى القتال في الجرود ودحض الإرهاب، وأثبت المقولة القائلة بأنّ هذه المعركة وسواها من المعارك واجب اخلاقيّ ووطنيّ وقد حمت لبنان بصيغته وميثاقه وتنوعه، والنصر فيها منح لبنان واللبنانيين فرح التمتّع بالتحرّر من رجس القوى التكفيريّة الرابضة فوق هاتيك الجرود الجرداء.
أسبغ المشهدان على الواقع السياسيّ مساحة حافلة بالعبر والمعاني التي بدأت الساحة المسيحية بصورة عامّة تفهمها وتمتصّها بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة. وفي الوقت عينه ستمنح الجيش اللبنانيّ بحسب ما تراه أوساط عديدة قوّة ومنعة يستثمرها في قتاله فوق جرود رأس بعلبك والقاع والفاكهة والانتقام لكرامته والانتصار للوطن. لن تقف الساحة المسيحيّة عند بعض العثرات الصادرة من مواقع مختلفة سواء من الوسط عينه أو من وسط تيار المستقبل، فالمسيحيون مرتاحون إلى غدهم، ولم يثبت الحزب سوى التضامن الكامل مع هذا الوجود التكوينيّ للبنان، كما رأت أوساط مسيحيّة بدءًا من مشروع قانون الانتخابات النيابيّة حينما دعم مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ وصولاً إلى تسليح المسيحيين في البقاع الشماليّ، ومساندتهم في القرى السورية في المواجهة مع القوى التكفيريّة. وما لفت المراقبين في حقيقة الأمر، أنّ مشتل الاعتراضات الصادرة عن هذه القوى الإدارة الأميركية بصورة مباشرة، والسبب أن تلك الإدارة وكما أكّدت معظم المعلومات فوجئت بحرب الحزب على جبهة النصرة، فهذه الجبهة بالنسبة للأميركيين معتمدة كورقة استثماريّة في لعبة شدّ الحبال نحو التسوية ضمن مهلة زمنية محدّدة ينتهي تاريخ صلاحيتها مع انتفاء وظيفتها وانتهاء دورها، لكون الوظيفة تحدّد الدور بمضمونه ومعالمه ومحتوياته. الواضح هنا، أنّ الحزب ما ان أخذ القرار باقتلاع جبهة النصرة من جرود عرسال بمعركة وجوديّة حاسمة ومظفّرة، حتى تحرّك هؤلاء بدافع من الإدارة الأميركية التي بدورها أوحت للسفارة الأميركية في بيروت بالتضامن بتحريك عدد من أفرقاء الرابع عشر من آذار، غير بعيدين عن المنظومة السعوديّة في مواجهة الحزب، للهجوم على الحزب واعتبار حربه مسًّا في جرود عرسال بالقرار الوطنيّ وهتكًا للسيادة الوطنيّة، وليس من تغطية لحزب الله بحربه على جبهة النصرة. وهكذا كان، انطلق تيار المستقبل برئاسة فؤاد السنيورة بهجوم كبير على الحزب، ودفعوا عددًا من النخب السياسيّة واللاهوتيّة للكتابة والتصريح ضدّ هذه الحرب، وضدّ المسيحيين المتضامنين مع الحزب في معركته الأخيرة، معتبري تضامنهم ذميّة سياسية وفكرية بدلا من دفع الجزية لكونهم اهل ذمة.
في هذا المسرى كلّه، كان بيان الرابطة المارونيّة برئاسة النقيب أنطوان إقليموس معبّرا ومدوّيا مختلفا عن تلك الأدبيات المعلّبة والمغلّفة، ومنتميًا إلى السياق المشرقيّ الذي دأب رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون على ترميمه وتثبيته وتجذيره بعمق كبير، فقد جاء هذا البيان على الرغم من اعتراض القوات اللبنانية وانسحاب ممثلها جوزيف نعمة من اجتماع الرابطة ومن دون الموافقة على البيان، ليظهر (أي البيان) أن الموارنة والمسيحيين مدركون بصدق وشفافية لمعنى القتال فوق الجرود وهدفيته، أي استئصال الدمل السرطانية القاتلة من جسده. هذا البيان مع خطاب المطران حنا رحمة في دير الأحمر، قفزة جديدة في السياق المارونيّ الموصوف بالمتحفّظ بصورة عامّة وقد أظهرته الرابطة غير مرّة. لم يعد الموقف المارونيّ المنطلق من الرابطة متحفّظًا في ظل انشداد المنطقة المشرقيّة بصورة عامّة نحو الحسم الميدانيّ كرحم لتسوية منتظرة في سوريا، إذ لم تعد الرؤى المتوثّبة المبثوثة بصيغتها المسيحيّة والمارونية معصومة وبحسب مصدر مسيحيّ رفيع المستوى عن قراءات بدأت تجريها قيادات مسيحيّة في السرّ والعلن متواصلة مع عدد من النخب المفكرة والباحثة، لتصل بالمحصلة إلى استنتاج دقيق وموضوعي، علميّ وعمليّ وواقعيّ، بأن نتائج الأحداث بالحسابات والحراك الإقليميّ والداخليّ متبلورة لمصلحة روسيا كقوى دولية كبرى ولمصلحة إيران كقوّة إقليميّة لها الحجم الكبير في المنطقة، ولمصلحة الرئيس السوريّ بشار الأسد بانكباب عدد كبير من الدول على الاعتراف بشرعيته وعلى رأسها الولايات الأميركيّة المتحدة، ولمصلحة حزب الله الذي جنى النتائج المظفرة في مساهمته بالحرب الاستباقية والردعية في الداخل السوريّ وقد حملت معركته في جرود القلمون تلك التجليات، وانسكبت بالضرورة لمصلحة الاستقرار المسيحيّ من ضمن سياق المشاركة المنصوص عنها بالدرجة الأولى في وثيقة التفاهم بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، والاستقرار المسيحيّ ليس محصورًا حتمًا في لبنان بل في سوريا وهو يعبّر عن حضور نافذ وكبير.
لقد أجرت هذه القيادات مع تلك النخب جردة حساب للوقائع المسبوكة ما بين لبنان وسوريا والعراق، ووصلت إلى استنتاج، بأنّ الهدف القوى التكفيريّة والدول خلفها انطلاقًا من محاولتها إسقاط النظام في سوريا هدفت بأنظومتها إلى ضرب المسيحيّة المشرقيّة بصورة خاصّة بشقيها اللبنانيّ-السوريّ. فما تدمير الأديرة وقتل الكهنة وخطف الراهبات وقبلهنّ خطف المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم وذبح الناس في أماكن عديدة من سوريا وتهجيرهم بالكلية من سهل نينوى، سوى هدف جوهريّ تولته جبهة النصرة وتنظيم داعش، وفي لبنان تبلور الهدف عينه عند من خشوا من وصول العماد ميشال عون إلى السلطة وأرادوا قانون انتخابات على مقاسهم. واعتبرت تلك القيادات أن السياق واحد ولم يتغيّر بين لبنان وسوريا. إن حزب الله الذي قاتل في سوريا وأخيرا في جرود عرسال بقتاله هذا مع قتال المسيحيين السوريين ضمن اللجان الشعبية والجيش السوريّ والجيش اللبنانيّ في جرود القاع ورأس بعلبك، أعاد للمسيحية المشرقية بهاءها وإشراقها، والمسيحيون اللبنانيون جزء منها وكرّس ترسيخ منطق الشركة المتوازنة من جديد بلا آحاديات ولا تهميش من هنا لهناك، ومن هذا لذاك. ويخلص مرجع مسيحي إلى الاستنتاج، بأنه من الطبيعيّ أن تتوالى تلك القراءات بموضوعيّة وتجرّد وبعقلانية صارمة حينما يبدو الهدف ساميًا وأخلاقيًّا. لقد طرح سؤال وجيه في الرابطة المارونيّة وقد تكرّر في عدد من المواقع، ما هو الأيسر أن يترك الحزب يقضي على هؤلاء ويريح البلد واللبنانيين منهم، أو أن يترك الإرهابيون على غيهم يتحكمون بلبنان ويفرزون الإرهاب في داخله ويهددون التنوع اللبنانيّ والمشرقيّ؟
لقد قدّر المسيحيون بغالبيتهم المطلقة منذ المعركة الفاصلة في جرود عرسال قتال الحزب، ويقدرون قتال الجيش اللبنانيّ المنتظر في ما تبقى من جرود في البقاع الشماليّ بالمعاني المكنونة في قلبه. ما يهمّ أنّ هذه الغالبية المطلقة لم تقف حصرًا عند حدود التقدير، بل إنّ التقدير بدوره بات ينتمي إلى قراءة موصولة بترتيبات جديدة بدأت مفرداتها تبصر النور.
من أهم تلك الترتيبات:
1-بطلان المشروع التقسيميّ في سوريا، وقد ثبت هذا بفعل بلوغ المعارك في معظمها إلى الحسم اليسير ولم يعد بالعسير.
2-ترسيخ الدولة المركزية في سوريا برئاسة بشار الأسد، والاعتراف الدولي بدأ يرد تباعًا بدءًا من الأمم المتحدة ومنطلقًا من الولايات الأميركيّة مرورًا بدول أوروبيّة كفرنسا.
3-تسليم المدى للرعاية الروسيّة التي ستدأب على ترسيخ تسوية جديدة ليست محصورة بالنطاق السوريّ فقط بل ترنو كما يبدو من خلال مصدر قريب من السفير الروسيّ في بيروت ألكسندر زاسبيكين إلى تسوية شاملة للصراع العربيّ-الإسرائيليّ بعد إنهاء المعارك الميدانية في سوريا. وتقول معلومات ان القوات الأميركيّة ستنسحب من الجنوب السوريّ لمصلحة الجيش الروسيّ، وهنا تكمن بداءة التسليم.
هذه الترتيبات فهمها المسيحيون في لبنان وبدأوا يجرون حساباتهم وقراءاتهم على أسسها. السؤال المطروح هل سيستمر حزب القوات اللبنانية في إطار المعارض أو انه سيبدأ بنحت رؤية مغايرة على الرغم من موقفه الدوغمائيّ؟ تقول بعض المصادر انّ القوات على الرغم من موقفها السلبيّ تجاه سوريا ونظامها على وجه التحديد، إلاّ أنّها بدأت تنطلق نحو مقاربات أكثر واقعية، على الرغم من أنها لم تبصر النور بعد، فهي لمّا تزل صامتة. والقوات غير معصومة عن قراءات تجريها مع نخب مختلفة عنها في الرؤية الجوهريّة للأمور وهي صديقة لها، منها حوارات يجريها رئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات شارل جبور مع عدد من الكتاب والنخب، وقد توج هذا الأمر بدعوة وجهت لإعلاميين معارضين لنهج القوات لإجراء حوار صريح مع رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، أطلق خلالها مواقفه الجديدة. يفترض وبحسب هذه النخب المسيحيّة، أن تتكثّف تلك الحوارات للوصول إلى مقاربات واقعيّة في ظلّ أمرين ثابتين:
1-انتصار النظام في سوريا على الرغم من المحاولات الكونيّة لإسقاطه
2-انتصار المحور الروسيّ-الإيرانيّ في كلّ المدى المشرقيّ، وانتظار استكمال هذا الانتصار على كلّ الأراضي السوريّة بعد عملية جرود القلمون والمتوجة بدورها بالعملية التي سيقودها الجيش اللبنانيّ في وجه تنظيم داعش.
كلّ الإشارات تشير إلى انتصار المشروع المغاير لهذا الخطّ، وعلى هذا كان انطلق عدد من المسيحيين وبخاصة الموارنة منهم إلى تحديد رؤى جديدة تنتمي إلى الواقع الجديد وتتعاطى معه بمرونة وهدوء وسلام.
المصدر: جورج عبيد – الديار 6-8-2017