كلمة رئيس الرابطة المارونية النقيب سمير أبي اللمع في إفتتاح محاضرة الدكتور حارث البستاني حول مئة عام من الثقافة- فؤاد افرام البستاني

ملك متوجٌ في مملكة العلم، عالمي في عالم الآداب استاذ في الجوهر، كاتب مؤرخ موسوعيٌ لغويٌ باحثٌ راوٍ … صفاتٌ جُلىّ يتعذر على قنديلي الصغير، الاضاءة عليها. لم أجد أعمق وأشمل من تلك الكلمات التي خطّها في مقدمة الكتاب أخي وصديقي وزميلي اميل بجاني عن هذا العالم الموسوع.
أيها الحضور الكريم،
هناك أناس يخرجون من الزمن ليعيشوا في صدور أهله. وهناك أناس كلما تباعد غيابهم، الفيتهم يسهمون في بناء ما أخذته عنهم من بناء.
من المهد الى اللحد، ما ادرك الوهن صوته، ولا نخر السوس عوده، لأنه واحد ممن خرجوا من الزمن، على غير ارادة أهل الزمن، وغير اقتناع… فإذا بجذور فؤاد افرام البستاني تذهب أعمق في الارض، أرض بلدته، وأرض وطنه، وإذا بأرضه تتشقق عن رؤوس ومناقير تنشد أناشيد الصمت الكبير.
لن أتطرق أيها الحضور الكريم، الى نتاجه الفكري الغزير، ولن أغوص في بحر علومه، سأترك الافاضة عنها الى من سيقودنا في نزهة ساحرة الى عمق أعماق هيكل فؤاد افرام البستاني… سأتركها الى أخي وصديقي حارس هياكل التراث وزهو الكنائس والقباب، من فينيقيا الى العرب الى العجم الى روما وبيزنطيا، الى بيروت أم الشرائع.
أنا سأقول كلمات في شخصه وفكره الرؤيوي وقد عرفته شاباً، عرفته معلماً يخشع في عمله كما في صلاة.
بعيداً عن حرارة التصفيق وهوس الاعجاب، ترانا وجهاً لوجه في هدأة الخاشع، نترع برحيق كؤوسه.
شفوياً كان، معلماً لا يصلك أكثر من شذراتٍ منه، فيطربك، ويقتلعك من مقعدك الى حيث يريك السحر، ثم تنقضي المناسبة، فلا يبقى في النفس إلا توقٌ ووعدٌ بجولة عتيدة.
ومع تكرار لقاءاتنا، بتنا نخشى عليه من أسر المناسبة، وقد استبد الاحساس بي، حيث أقبلت على بعض كتبه بكثير من الخشية والحذر، كالبحر، لا تحيط عيناك بغير المرئي من أبعاده، فلا تستكشف درره، ولا تسبر أعماقه، بل ما تناهى من صوت أعماقه وتموج لألائه، جاهداً ما عدا ذلك بانتظار ما يزودك به العلم.
هكذا تخرج من قراءة مئتي مؤلف، وكأنك لم تعرفه من قبل وبهذه المؤلفات ألف عين وألف أذن، مسؤولة دالة مدّلى مكثفة صارمة في مواضعها، يستسهلها من فكرة، ثم يوقعها على نبضه، لتصبح أداة تفجير للحياة ودرساً للناشئة.
مؤلفات مشبعة بالعمق وبالحس القوي وتراكم الحضارات، أنها اللقيا المضخمة بالنور، حتى لتكاد تلّخص كل فؤاد افرام البستاني، لحظات تجليات عظمى، فيها الرأي الموفور، وفوق أي توقع، حتى ليزخم الكلمة ويربكها.
أي مجتهد وساع كان هذا الرجل، وأي ثراء ثراؤه، وكيف كان يبحر في مراجعه، وفي أي هجعة من الليل وبأية وثبة من العمر.
والحجة قائمة، سواء بالاستنباط العقلي أو بالاستبحار العلمي أو بنور القلب. يصك المعدن بالمعدن، ولا يزيّن النحاس بالماس، ولا يُطعم الذهب بغير الجاد، وإذا بالاعجوبة تتم… فكلما قسا الموضوع أوسما، ارتقت النجوى، وتجلى الحدث… وتصبح القطعة بين يديك قطعة من السما.
وبقي السؤال الاكبر:
في أي قالب صَبّ فؤاد افرام البستاني تماثيله وخطّ رسومها. قد يفاجئك القول بأنه وضع كل ذلك يوم أيقن أننا ملوك العربية، وأن لغة حرقتها الشمس تعود الينا طريةً نديةً تكرج على السن الاتقياء.
لقد أيقن أن لبنان تاريخ وتراث، أرض جمالات، أرض تلك الحورية التي أسقط عنها الحرف مكرهاً، فأصبح اسمها الحرية. وتصبح الحرية عنده الباب الى الرتاج، والشرارة التي تقدح اللهب الكبير، تمرداً وابداعاً وتجرداً.
وهكذ سطر الاديب والمفكر والمؤرخ والرؤيوي أجمل حروف العربية بعدما نضجت عميقاً في ألواح صدره.
واجه مغالق الفكر والكلوم، ونبذ التقليد والنسخ والتعقيد، فلم تثنه مفازةٌ في مجال الرأي، ولا غيض مأوه في مقالع الصوان، بل خرج من الدنيا بالكلمة الفصل، وفي كل كلمة ولادة.
والدك يا أخي حارث، المسيحي السرياني الماروني المؤمن العلامة، هو أحد كبار زارعي الوطنية الحقة في أرض الوطن.
عملاقٌ بسط كفيه فوق سهل وجبل، ينثر الحَب بسرعة ورشاقة، ثم أجرى السقيا برجاء القلب ونور العين، فاشتعل الزرع نـماء.
مئة عام من الثقافة.. بناؤنا الفكري والادبي والسياسي أعليت قبابه قروناً… وجمال لبنان نسقت خطوطه وحبكت خيوطه، لتتعرش القيم الحقة في لبنان
ويا أخي حارث
وأنت ابن ذاك الضافر جبينه في كل أفق، والشغف بمسرى الحقب والنور… لقد سرت على خطاه، تبغي العلم والجمال، فهنيئاً لك بموسوعة ترتدي حلة الجمال.
ونحن وأنت في الرابطة المارونية، نسأل الله أن تبقى هذه اللقاءات الفكرية عامرة مباركة، نشرف منها على أعماق تراثنا، فنعلوَ على خلافاتنا ونخرج من عتمات الركود، ونلقى الغبطة في أن نعود الى بساطة فؤاد افرام البستاني وحبه للبنان، وهي أجمل ما بقى لنا من ماضٍ عريق أحببناه، ومن حاضر نريد من كل قلوبنا أن يبقى منطلقاً خصباً للفكر ومعقلاً حصيناً للحرية